Welcome

علم الأمراض الفكري وضرورة الالتزام بالبرهان

 

علم الأمراض الفكري وضرورة الالتزام بالبرهان

 

في جزء من إجابة الدكتور فنائي أشكوري علی سؤال أحد طلاب صف الفلسفة حول النقطة الأهم في ضرورة الاهتمام بالفلسفة، طرح النقاط التاليه

أهم درس يجب تعلّمه من المنطق والفلسفة هو فن البرهان. إن لم يتقن المرء هذه المهارة، فلن يجني فائدة حقيقية من الفلسفة. للأسف، كثيرون ممن قضوا سنوات في دراسة المنطق والفلسفة لا يكتسبون فعليًّا عقلية برهانية

أنا أدرّس وأبحث منذ سنوات في الحوزات الفلسفية والكلامية وعلم الكلام بشكل عام. في الكتب أو النقاشات الصفية أو الحوارات خارج الدرس، كثيرًا ما ألاحظ أن الأشخاص يبدون وكأنهم يقدمون حججًا عقلية، لكن في الواقع، معظم استدلالاتهم جدلية أو خطابية، قائمة على المشهورات المجردة (معتقدات شائعة دون أساس منطقي) أو مغالطية. الضجيج في هذه النقاشات كبير، لكن النتيجة العقلانية الحقيقية غائبة

كل مجموعة – سواء أكاديمية أو حوزية أو تيارات فكرية مختلفة – لديها مشهوراتها الخاصة؛ عبارات تُعتَقد يقينيًا أكثر من أي برهان، بينما تأسست هذه المعتقدات على الشهرة أو الإيحاء أو التلقين أو التقليد، وتتحول إلى جمود تعصبي. تُبذَل جهود كبيرة لإقناع الأفراد بأن اليقينيات التي يستخدمونها في مقدمات استدلالاتهم غالبًا ما تكون بلا أساس، ناتجة عن عادات فكرية جماعية، ومقاومة هذا الأمر صعبة للغاية

ما هو ضروري حقًّا هو تنمية العقل البرهاني. معرفة المغالطات الشكلية (أخطاء في بنية الاستدلال) أسهل نسبيًّا، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في المغالطات المادية؛ أي الأخطاء التي تحدث في محتوى الاستدلال ومادته، حيث تُستبدل الأمور غير اليقينية باليقينيات

وظيفة العقل الرئيسية في التفكير البرهاني هي الدقة الفكرية؛ أي التفكير بطريقة برهانية والتحدث بمنطق برهاني (عبارات واضحة دون غموض). وأهم نقطة هنا هي التمييز بين اليقينيات وغير اليقينيات (عدم قبول أي ادعاء لمجرد انتشاره أو الشعور باليقين)

في هذا المسار، نحن مدينون بشكل خاص لاثنين من الفلاسفة العظام: أرسطو (مؤسس المنطق الشكلي) في كتاب “الأورغانون” (خاصة في “التحليلات الثانية”)، وابن سينا العظيم، الذي قدم في كتاب “البرهان” من منطق الشفاء أعمق وأدق الدروس حول التفكير البرهاني. ابن سينا هو المعلم الأعظم للتفكير. كتاب “البرهان” في الشفاء هو الأدق لتعليم التفكير؛ فهو يعلّم بنية الاستدلال، ويُحلّل بدقة الفرق بين اليقينيات وغير اليقينيات

في العصر الحديث أيضًا، هناك أعمال جيدة في هذا المجات يجب دراستها بعناية. ما يُعرف بـ “التفكير النقدي” (Critical Thinking) حدد أكثر من مئة نوع من المغالطات، والانتباه إليها مهم جدًّا

ما ذكرته ينطبق على حلقات العلوم العقلية التي يُفترض أن يكون البرهان معيارها. لكن عندما ننتقل إلى مجالات أخرى، خاصة النقاشات السياسية والاجتماعية، لا نجد أي معيار، ونادرًا ما نرى شيئًا اسمه تفكير. يخلط الناس بين قدرتهم على الكلام والكتابة وقدرتهم على التفكير. هذان أمران مختلفان: فن الثرثرة غير فن التفكير

التفكير البرهاني هو السبيل الوحيد للنجاة من السفسطة والمغالطة. طالما ظلت العقول أسيرة المشهورات والعادات الفكرية، فلن يتشكل تفكير حقيقي حتى مع وجود كم هائل من المعلومات الفلسفية. لذا، يجب إعطاء الأولوية لتمرين العقل على البرهنة، سواء في التفكير الفردي أو الحوارات الجماعية

Leave a Reply