عبادة دينية؛ هل هي مقتضى العقلانية أم نافية لها؟
محمد فنائي أشكوري
السؤال: واحدة من الانتقادات التي وجهها الأستاذ مصطفى ملكيان للدين، والتي تكررت كثيرًا، هي أن الدين يتعارض مع العقلانية، لأن العقلانية تستند إلى الاستدلال والبرهان، بينما الدين قائم على العبادة والتعصب، ويعتبرون العبادة شيئًا غير عقلاني. ما هو ردكم؟
الجواب:
نعم، لقد رأيت أيضًا أنه قال مرارًا إن الجمع بين الدين والعقلانية غير ممكن، ومن هنا يعتبر مفهوم “المثقف الديني” متناقضًا. حجتهم هي أن المثقف ملتزم بالعقلانية، بينما المتدين متعصب، وهذان الأمران غير متوافقين. ولكن، هل وجهة نظرهم صحيحة؟ نحن من خلال دراسة مفهوم العبادة والعقلانية، نوضح أنه ليس فقط أن العبادة الدينية لا تتعارض مع العقلانية، بل إن مقتضى العقلانية هو قبول العبادة الدينية.
ما هي العبادة؟
يعرّفون العبادة كأنه يعني قبولًا عمياء لجملة ما، دون أي دليل أو برهان. على سبيل المثال، يقولون إن العبادة تعني الإيمان بأن “ألف هو باء” فقط لأن شخصًا ما قال ذلك، وليس بسبب وجود دليل منطقي. هذه التعريف يقوّض العبادة ويجعلها تبدو كأمر غير عقلاني، كأن المتدينين يؤمنون بشيء ما دون أي أساس عقلاني، فقط بسبب ما يقوله الآخرون. لكن هذا التعريف للعبادة غير صحيح، وهذا الشكل من التعبير غير عادل، لأن الناقد يعلم أن المتدينين لا يعرفون العبادة بهذه الطريقة. ولكن إذا ذكر المعنى الصحيح للعبادة واستدلالات المتدينين، فلن يقبل المتلقي ادعاءه، لأنه يرى أن العبادة تُظهر معاني عقلانية. لذا، فهو يحرف معنى العبادة ويُظهرها على أنها غبية ليجذب المتلقي إلى جانبه.
العبادة في معناها الصحيح هي قبول قول صادِر عن مصدر ثبتت سلطته وحجيته بالاستدلال العقلي والدليل المعتمد. بمعنى آخر، العبادة الدينية تستند إلى سلسلة من الاستدلالات العقلانية التي تثبت أولاً ضرورة النبوة، وصدق النبي، وارتباطه بالله. بعد هذا الإثبات، تقبل بعض التعاليم الدينية من النبي (ص)، دون الحاجة إلى طلب دليل لكل واحدة من هذه التعاليم بشكل منفصل. على سبيل المثال، عندما يقول النبي (ص)”الصلاة واجبة”، يُقبل هذا القول لأن مرجعية النبي واتصاله بالله تم إثباته بالأدلّة العقلية. هذه القبول ليس عمياء ولا غير عقلاني، بل هو نتيجة لعملية استدلالية.
ما هي العقلانية؟
العقلانية تعني قبول جملة ما بناءً على الاستدلال والبرهان. على سبيل المثال، تقول العقلانية: “ألف هو جيم، لأن ألف هو باء وباء هو جيم.” هذه العملية المنطقية تستند إلى الأدلة والاستدلالات. ولكن، هل العبادة الدينية تتعارض مع هذا التعريف للعقلانية؟ لا! العبادة الدينية تعود أيضًا إلى الاستدلال العقلي. على سبيل المثال، عندما نثبت أن النبي يتحدث عن الله وأن الله عالم مطلق وصادق، نستنتج أن ما يقوله النبي هو الحق والصحيح. لذا، عندما يقول النبي “الحج واجب”، فإن قبول هذا القول هو نتيجة للاستدلال العقلي الذي يؤكد مرجعية النبي.
يظهر النقاد من خلال تقديم تعريف مشوّه للعبادة أنها أمر غير عقلاني وحتى مغالِط. يقولون إن المتدينين يؤمنون بشيء ما فقط لأن شخصًا ما قال ذلك. هذا النوع من العرض ليس فقط غير منطقي، بل أيضًا غير عادل، لأن أي متدين لم يستخدم العبادة بهذه المعاني. تقليص العبادة إلى “قبول أعمى” هو مثال على مغالطة الرجل القش؛ أي عرض خاطئ لموقف الخصم لتسهيل رفضه. لم يعرف المتدينون العبادة بدون قاعدة عقلانية.
العلماء الدينيون، بما في ذلك المتكلمون المسلمون، يثبتون أولاً بالأدلة العقلية أصول الدين مثل التوحيد والنبوّة ثم ينتقلون بعد ذلك إلى القضايا الفرعية في الدين، ويعتمدون على العبادة. هذه العبادة هي نتيجة سلسلة من الاستدلالات المنطقية، وليس قبولًا أعمى. إذا أراد النقاد أن يكونوا منصفين، عليهم أن يقولوا إنهم لا يقبلون استدلالات المتدينين، وليس أن يقولوا إن المتدينين يتصرفون بشكل غير عقلاني ويؤمنون بشيء ما فقط لأن شخصًا ما قال ذلك. تمامًا كما قد نعتبر بعض استدلالات النقاد مغالِطًا، كما أن نقدهم لعدم عقلانية العبادة غير صحيح.
الخلاصة:
نفي العبادة الدينية يتعارض مع العقلانية، لأن العقلانية تقودنا إلى قبول العبادة الدينية. يمكن إثبات بالأدلة العقلية أن النبي يتحدث عن الله، وبما أن الله عالم مطلق وصادق، والنبي أيضًا صادق، فإن أقواله هي الحق. لذا، فإن قبول تعاليم النبي هو نتيجة لعملية عقلانية. من لا يقبل هذه النتيجة المنطقية، في الواقع يتصرف ضد مقتضى العقلانية. وبالتالي، ليس فقط أن العبادة الدينية لا تتعارض مع العقلانية، بل إن مقتضى العقلانية هو قبول العبادة الدينية، وإنكار العبادة يتعارض مع العقلانية.