Welcome

ندوة حول “الاستعمار الثقافي وطرق مواجهته” مع الدكتور محمد فنائي اشكوري

المذيع: سعادة الدكتور، أشكركم على قبول دعوتنا. أنت منذ فترة تبحث في مفهوم يُطلق عليه “الاستعمار الذهني”. للبدء، حدّثنا لماذا شعرت أن هذه القضية بهذه الأهمية وتستحق البحث والتحذير منها؟

فنائي اشكوري: شكراً لكم. إذا أردت أن أكون صريحاً، فأنا أعتبر الاستعمار الذهني أحد أكبر الأزمات الفكرية والثقافية في مجتمعنا والعديد من المجتمعات الأخرى. إذا كان المستعمرون في الماضي يستولون على الدول بقوة السلاح والمدافع والدبابات، فقد وصلوا اليوم إلى قناعة بأن الهيمنة المستدامة ممكنة فقط من خلال السيطرة على عقول وأفكار الناس. أي أن أصحاب الهيمنة يمكنهم بهذه الطريقة، دون إطلاق رصاصة واحدة، أن يغيروا هوية ومعتقدات أمة.

المذيع: أي ما الذي يحدث بالضبط؟ كيف تعرّف الاستعمار الذهني؟

فنائي اشكوري: الاستعمار القديم كان يحتل الأرض والجغرافيا. أما الاستعمار الجديد فيحتّل العقل والثقافة. الهدف اليوم هو أن يرى شعب بلد ما، دون أن يدرك، قيم ومعتقدات ومعايير المستعمر على أنها “صحيحة وأفضل”، ويرى ثقافته على أنها “عديمة القيمة، متخلفة ولا فائدة منها”. ما النتيجة؟ المجتمع، دون أن يشعر بضغط خارجي، يتحرك بنفسه نحو التبعية الفكرية والثقافية.

المذيع: ما هي مظاهر هذه الهيمنة الثقافية؟ كيف تتجلى في الحياة اليومية؟

فنائي اشكوري: واضحة جداً. أحد أهم الرسائل التي يكررها الاستعمار الفكري هي أن “الثقافة الغربية أرقى” و”ثقافتنا متخلفة”. إذا ترسخت هذه الفكرة في ذهن المجتمع، فمن هناك يبدأ كل شيء؛ احتقار الذات، التقليد الأعمى، الاغتراب عن الذات، وأخيراً التبعية.

المذيع: أي نفس الظاهرة التي طالما أُطلق عليها منذ سنوات اسم “المرض بالغرب” أو “الاستغراب”؟

فنائي اشكوري: تماماً. عندما يدرس شابنا المتفوق وينمو، ولكنّه يغادر بلده بعد ذالک لأنه أصبح يعتقد أن لا مجال للتقدم هنا، فهذا يعني أن الاستعمار الذهني قد أثّر. لم يقل له أحد “يجب أن تذهب حتماً”، بل تغيرت منظومته الفكرية. هناك أمثلة أخرى أيضاً: قيم كانت تاريخية وأصيلة في ثقافتنا، تُصبح فجأة “متخلفة”، وسلوكيات مثل العري ومحاربة العفاف والطهارة أو سلوكيات مشابهة تُعدّ “من التجدد والتقدم”. حتى أن بعض المتعلمين أحياناً يصل بهم الانبهار بالعدو إلى حدّ أن يطلبوا من القوى الأجنبية أن تهاجم بلدهم! هذا هو ذروة غسيل الدماغ ومسخ الهوية.

المذيع: حسناً، كيف يتمّ هذا التغيير في المعتقدات والسلوكيات؟ ما هي أدوات الاستعمار الذهني؟

فنائي اشكوري: له أساليب ومسارات متنوعة:

١. التعليم والجامعات:

   النظام التعليمي الحديث في معظم أنحاء العالم مصمم على أساس النماذج الغربية. المعرفة التي تُنقل، تنتقل مصحوبة برؤية كونية وقيم معينة من قِبل مقدميها. يُلقن للطالب: “ثقافتك ودينك غير فعالين؛ الطريق الصحيح هو تفكيرنا.”

   لديهم برنامج لكل طبقة وعمر وفئة وجنس، ويستخدمون كل الطرق الممكنة، من الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية للأطفال والمراهقين، إلى الفلسفة والعرفان للنخب العلمية. نعم، إنهم يستخدمون العلوم الزائفة خاصة في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة، وعلم النفس الزائف، وهندسة الفكر، إلى الأدب وخاصة الرواية، للسيطرة على العقول والهيمنة على الأفكار وتغيير الأذواق والذائقة وأسلوب الحياة.

٢. الإعلانات والأنشطة الخيرية ظاهرياً:

   في تاريخ الاستعمار، كان دائماً بجانب القوة العسكرية، هناك المبشّر الديني أو الثقافي. لغزو أراضي سكان أمريكا الأصليين، لاحتلال واستعباد شعوب أفريقيا، وكذلك في كل المناطق المستعمرة ترى المبشّرين إلى جانب القادة العسكريين والتجار الغاصبين. اليوم أيضاً، تحت عنوان “المنظمات غير الحكومية” أو “أعمال خيرية” أو “مساعدة في التنمية”، يستهدفون عقل الجيل القادم في الدول الضعيفة والفقيرة. أولئك الذين كان عملهم دائماً القتل والنهب، تراهم بشعارات وغطاء إنساني يقومون بأعمال خيرية، يجب أن تعلموا أن هذا أيضاً طريق للنهب، لكنه طريق أكثر تعقيداً، أقل كلفة وأكثر ربحاً.

٣. الإعلام وصناعة الترفيه:

   وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية هي أدوات الاستعمار الثقافي. السينما، التلفزيون، الأزياء، الموسيقى، والألعاب ليست مجرد ترفيه؛ إنها حاملة للرسائل والقيم. هوليوود اليوم هي أكبر مؤسسة للاستعمار الثقافي في العالم.

٤. الفضاء الإلكتروني:

   المنصات والشبكات التي لها أكبر تأثير على شاب اليوم، مملوكة لمن؟ أي ثقافة تعيد إنتاجها؟ هذا الفضاء هو أكبر أداة للتأثير القيمي والاستعمار الذهني.

٥. اللغة:

   فرض اللغة الأجنبية يساوي فرض الفكر والثقافة. بريطانيا في الهند، وفرنسا في أفريقيا، والعديد من الأمثلة الأخرى تشهد على هذه الحقيقة. اليوم أيضاً تُعلَن اللغة الأجنبية على أنها “اللغة الأرقى” وتُحتقَر اللغة الأم. هم تحت غطاء تعليم اللغة يصدرون ويلقون ثقافتهم وقيمهم.

المذيع: ما هي عواقب الاستعمار الذهني؟ لماذا يجب أن نأخذه على محمل الجد؟

فنائي اشكوري: عواقبه شديدة التدمير وكارثية:

   يخلق أزمة هوية.

   يصيب الفرد والمجتمع باحتقار الذات.

   يجعلك غير واثق من ثقافتك، ومفتوناً بالأجنبي.

   يخلق تبعية فكرية، ويليها تبعية سياسية واقتصادية وثقافية.

   ترى اليوم دولاً انتهى فيها الاستعمار العسكري لكن الاستعمار الذهني باقٍ؛ أي أنهم مستقلون ظاهرياً لكنهم تبع في الفكر والثقافة للآخرين، ومن خلال ذلك تُؤمّن هيمنتهم ومصالحهم غير المشروعة.

المذيع: هل يمكن مواجهة هذا الاستعمار؟ ما الحل؟

فنائي اشكوري: بالتأكيد يمكن، لكنه ليس عملاً بسيطاً، إنه معقد ومتعدد المستويات. له مراحل رئيسية عدة:

١. التوعية:

   أولاً يجب على الفرد أن يفهم أن عقله قد تم اختراقه؛ وهذه أصعب مرحلة. فمن يصاب بالاستعمار الذهني يظن أنه “مثقف، حر ومستقل” ولا يقبل أنه ضحية خداع.

٢. تعزيز التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة:

   يجب تعزيز القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والواقع من الدعاية والإشاعة، والتحليل المستقل.

٣. العودة الواعية إلى الهوية والثقافة الأصيلة:

   ثقافتنا لها إرث هائل أدبي، وعرفاني، وفلسفي، وأخلاقي، وروحي، وحضاري. معرفته وتعريفه للجيل المتعلم يولد ثقة ثقافية بالنفس.

٤. تعريف الوجه الحقيقي للاستعمار:

   يجب سرد تاريخ الاستعمار. إذا عرف الناس ما جلبه المستعمرون الأوروبيون لشعوب العالم، وكيف بنوا قصور ترفهم على جثث مئات الملايين من مستضعفي العالم وأنقاض الدول المستعمرة، فلن ينخدعوا بسهولة.

٥. استخدام التقنيات الحديثة لاستعادة العقول:

   يجب، من خلال الهندسة العكسية، استخدام نفس الأدوات التي استخدمها أصحاب الهيمنة للاستعمار الثقافي لمقاومتهم. يجب استخدام الفن، والإعلام، والفضاء الإلكتروني، والعلوم الإنسانية، وحتى الذكاء الاصطناعي، لإظهار قوة وثراء ثقافتنا.

النقطة المهمة التي يجب الانتباه لها هي أننا لسنا أعداء “للعلم، أو التكنولوجيا، أو الفن الجديد”. هذه اشیاء قيّمة ويجب الترحيب بها من أي مكان كانت. يجب الكفاح والمواجهة ضد “المعتقدات الباطلة، والقيم الفاسدة، والهيمنة، والثقافة المعادية للأخلاق والروحانيات”. النقطة الأساسية في هذا النقاش هي أن الحرية والاستقلال الحقيقيين يبدآن بالحرية والاستقلال الفكري. ما لم يتحرر العقل ويستقل، لا يتحرر الإنسان ويستقل.

المذيع: شكراً جزيلاً لكم على شرحكم هذه القضية المهمة بلغة بسيطة وواضحة.

فنائي اشكوري: وأنا أيضاً أشكركم على اهتمامكم بهذا الموضوع.

Leave a Reply